الجزء الثاني
الحضارات ولدت وبزغت ،،، من بلادي
بعد مبيتنا في تدمر , انطلقنا في اليوم التالي وحسب البرنامج الموضوع ـ والذي يدل على ثقافة ووعي من وضعه ـ إلى محمية التليلة حيث علمنا بوجود العديد من المحميات التي تعتني بالحيوانات على أرض وطننا , وتابعنا المسير في قافلة من أربعة باصات بولمان لزيارة " دورا أوروبـــس " أو " دار عروب " ودخلنا متحفها , ورأينا الفرات الذي يحيط بها من جهة, كما شاهدنا أطلال الكنيسة فيها , وكنا قد علمنا سابقاَ بأن الكنيس اليهودي فيها قد نقل إلى متحف دمشق وأعيد ترميمه , وعلمنا عن وجود 16 معبداَ مكرساَ لآلهة تدمر فيها, وموقعها هذا على طريق الحرير جعل منها مركزاَ تجارياَ متميزاَ .
وإلى تل الحريري حيث وجدت مملكة ماري , التي كانت تراقب الطرق التجارية والنهرية التي تربط أعالي نهر الفرات بأدناه , وكانت دهشتنا كبيرة وعظيمة عند مرورنا ببعض غرف قصر ملكها " زمري ليم " والتي يبلغ عددها " 300 " غرفة وقاعة , بالإضافة إلى خمس وعشرون ألف رقيم طيني , و 9600 لوحة مسمارية عثر عليهم , والمنطقة مغطاة بغطاء بلاستيكي لحمايتها .
وفي طريقنا للمبيت في دير الزور قمنا بزيارة متحفها , والذي ضم في بعض أجنحته محتويات متحف البلدة القديم , ونماذج ومجسمات لبيوت تل بقرص , ومجسم لمدخل قصر زمري ليم ملك ماري , إضافة لنموذج مقهى شعبي فراتي , وكذلك سفينة قديمة استخدمت للانتقال بين ضفتي الفرات .
صباح اليوم التالي انطلقنا باتجاه " حلبيا " والتي شاهدنا منها " زلبيا " ,وأسوارهما الشامخة وأطلال مبانيهما المختلفة الرابضين على ضفتي الفرات , وكانتا خطوط دفاع أمامية ضد الغزو الفارسي .
وباتجاه " الرصافة " أو " سرجيوبوليس " , كانت محطتنا التالية , لنرى الأطلال الباقية من كنيسة الصليب المقدس وكنيسة القديس سرجيوس , ونسمع شرحاَ وافياَ من الزميلة نسرين الحداد حول " البيما " التي تتوسط الكنيسة وتاريخها ( وهي عبارة عن منصة حجرية على شكل حدوة حصان توجد وسط البهو الأوسط في الكنائس الفاسيليكية ) , ولفت انتباهنا أن بعض الكتابات اليونانية الموجودة على بعض الأعمدة كانت محفورة عكسياَ ـ وهذا شيء لا يوجد شرح أو تفسير له حتى اليوم ـ .
وإلى سد الفرات واستراحة في مدينة الثورة تابعنا طريقنا باتجاه حلب , التي اتخذناها مركزاَ لزيارة المواقع الأثرية حولها , وكنا قد علمنا بأن لقب " الشهباء " الذي تتميز به عائد إلى أن إبراهيم عليه السلام مر بها وحط رحاله على تلتها ( القلعة ) وحلب بقرته الشهباء فيها .
انطلاقاَ من باب إنطاكية فيها, وبإشراف دليلنا الأستاذ عدنان الحموي الذي أسهب وأمرع في الشرح ومدنا بالمعلومات , مررنا بأسواق حلب النسيجية , وتنشقنا روائح التوابل والبهارات والأعشاب والعطور مثل سوق البزورية في دمشق , لنصل إلى قلعتها الشامخة , ولنشرف منها على حلب , ونزور فيها الجامع الكبير والصغير , ونرى المسرح المرمم والمجدد فيها ,وكذلك قاعة العرش والقصر الملكي , والحمامات , وسجن حبس الدم , ورغم تدخل وشرح أدلائنا عن دورنا ومهنتنا , فإن المسئول عن المتحف الموجود في القلعة لم يسمح لنا بالدخول إلى المتحف ,وعلمنا عن أنه يضم بعض الآثار واللقى والأسلحة التي عثر عليها داخل القلعة, وبعد القلعة قمنا بزيارة سوق المهن اليدوية , وبعض الخانات , والجامع الأموي الكبير والذي فيه ضريح القديس ذكريا والد القديس يوحنا المعمدان ( النبي يحيى ) , والبيمارستان الأرغوني , وزرنا كذلك أحد معامل صنع صابون الغار الذي تشتهر به حلب ,وكانت خاتمة يومنا هذا زيارة متحف التقاليد الشعبية ومتحف حلب الذي يضم في أجنحته كل ما له علاقة بالمدن الأثرية الموجودة حول حلب .
وإلى ايـبـلا ( تل مرديخ ) كانت وجهة سيرنا في اليوم التالي , هناك حيث وجدت "أولى الوثائق المكتوبة وهي أربعين رقيماَ مسمارياَ , ثم عثر على آلاف الرقم الأخرى والتي تقدر بحوالي ـ 17000 ـ رقيماَ ,تضمنت الحياة الاقتصادية والحسابية والإدارية والأدبية , بالإضافة إلى معجم لهجات بمفردات ألسن مختلفة بلغت ـ 15000 ـ كلمة " .
وأسمح لنفسي هنا بالطلب إلى المسئولين في وزارتي السياحة والثقافة برفع كتاب لوزارة الداخلية لمنح المواطن الإيطالي والباحث الأثري " باولو ماتـيـيـه " شرفياَ الجنسية العربية السورية , تقديراَ ووفاءاَ لجهوده المشكورة .
وفي متحف معرة النعمان ( خان عثماني محفوظ بكامل عماراته وأبوابه الملتفة ) , اعترتنا الدهشة , وتملكنا الفخر والاعتزاز , بمعاينة تلك اللوحات الفسيفسائية , والمنقولة من أماكنها وكنائسها الأثرية , وكان للدليل الأستاذ أنطون حداد الفضل في شرح وتوضيح أهمية تلك اللوحات ومدلولاتها .
وأود الذكر بوقوع دليل المتحف المحلي في مغالطات دينية مسيحية جسيمة ـ والتي ورغم توضيحنا له بأخطائه بقي مصراَ على ما يقوله ! ـ ومنها أن المسيحيين يقدمون الحيوانات كأضاحي وتقدمة إلى الله , وأن السيد المسيح عندما قال " أنا الكرمة " كان يقصد " أنا الخمر " حسب قوله , وهذا الموضوع أضعه بتصرف مدير المتحف والمسئولين في وزارة السياحة , لأن هناك موضوع وطني فيما إذا كان هذا الدليل يشرح المغالطات التي قالها لنا لسواح أجانب مسيحيين .
وبمتابعتنا زيارة المدن الميتة أو المنسية والتي تحكي عن جزء مهم من تاريخ سوريا وحضاراتها,تذكرنا محاضرة المهندس الأستاذ عبد الله حجار التي ذكر فيها عن وجود / 820 / موقع وقرية منسية , وأكثر من / 2000 / كنيسة في مساحة تقدر بحوالي / 5500 / كم2, ونحن نزور " سرجلة " , ونرى فيها قبورها , وكنائسها, وحماماتها .
وتلتقينا " البارة " المحاطة بأشجار الزيتون , وكانت من أكبر المدن المنسية , والتي بقي منها حتى اليوم بعض القبور الهرمية ,وبعض من أطلال كنائس قديمة ومباني أثرية .
ونمر في " ادلب " التي تحوي في متحفها قسماَ كبيراَ من تراث مدينة ايـبلا,
لنصل إلى " قلعة ودير القديس سمعان العامودي " ,والتي اكتسبت لقبها نسبة للقديس الناسك سمعان العامودي , الذي عاش معظم حياته في الزهد والتعبد جالساَ على عامود , وبعد انتقاله ( وفاته ) عام 459 م بنى الإمبراطور زينون كنيسة تكريماَ لاسمه , وتعتبر أجمل كاتدرائية في الشرق , وتتألف من أربع كنائس متصالبة يتوسطها عامود القديس , علماَ بأن خامس خليفة من الخلفاء الراشدين مدفون في ترابها.
وبعودتنا إلى حلب لقضاء الليل فيها, قمنا بعد دعوة كريمة تلقيناها من الأستاذ عصام حتيتو بزيارة مسرح مديرية الثقافة فيها لحضور حفلة موسيقية لمدرسة بني تغلب الثانية .
وإلى مدينة أبي الفداء " حماه " كانت وجهتنا, والتي زرنا فيها متحفها, وشاهدنا منبر المسجد النوري, وعاينا بعض لوحات الفسيفساء فيه , وكأن هناك من ينادينا , اتجهنا لزيارة نواعيرها المشهورة ـ الباقي منها 16 ناعورة ـ وسماع عنينها ورؤية نهر العاصي الذي يمر بها,وزرنا قصر العظم فيها وحماماته, وهو تحفة نادرة ونموذج صادق للطراز العربي في فن البناء وزخرفته , وشاهدنا قلعتها .
ولايغيب عن فكري وقلبي تلك الضيافة الأخوية المشكورة التي قام بها الأخ والزميل نصير الناصر بتقدمته لنا ما تشتهر به مدينته من حلاوة الجبن مع الخبز , حيث كانت هذه الضيافة على بساطتها , برهان ساطع لما يتمتع به رجال حماه من كرم ومرؤة ووطنية .
وباتجاه " أفاميا" تابعنا طريقنا , لنرى فيها أطلال مدينة القائد سلوقوس نيكاتور ومركز قيادته العسكري, والذي وهبها اسم زوجته, وعاينا امتزاج الحضارة اليونانية بالحضارة السورية المحلية,وسرنا في شارع أعمدتها المحززة بشكل لولبي والذي يبلغ طوله / 1850 / م وعرضه / 37 / م,وشاهدنا مسرحها الروماني , وكنا قد علمنا أن شخصيات تاريخية كبيرة قد زارتها مثل كليوباترا وسبتيموس سفيروس وكركلا , و "تدل لوحات الفسيفساء التي وجدت فيها على أهمية أوابدها وجمال أرضيتها " , كما زرنا معبد الحظ فيها ,ورأينا حماماتها , وبعض أطلال كنائسها ,والذي كان يحفظ في إحداها قطعة من الصليب المقدس , وفي كنيسة أخرى رفاة القديسين كوزما وداميانوس , وفي العصر المسيحي تحولت أفاميا إلى أسقفية .
وعبر طرق جميلة اتجهنا إلى " قلعة صلاح الدين ", حيث كان في انتظارنا بعض الميكرويات لنقلنا عبر واحة خضراء هبوطاَ وصعوداَ , وقد سميت باسمه لتحيي ذكرى الاستيلاء على القلعة عام 1188 م ,والتي سقطت خلال ثلاثة أيام , وكانت تعتبر من أكثر حصون الغزو الصليبي مناعة , وكانت تتصل بالطرف الآخر عن طريق مسلة صخرية نحيفة يستند على ذروتها جسر متحرك يصل مابين الهضبة المقابلة وباب القلعة , ومتى رفع الجسر عزلت القلعة عما حولها , وكان يحيط بها خندق كبير, وتميزت بموقع استراتيجي مهم , وفي داخلها توجد حمامات مميزة , وكذلك جامع بمئذنة باسقة طويلة, وكذلك حوض الماء .
ومع هبات النسيم وصلت إلينا رائحة المتوسط ( البحيرة السورية الفينيقية ) , ونحن في طريقنا إلى " أوغاريت " المكتشفة عام 1928 , وهي الصبية الممتلئة صحة وحيوية أو المدينة المحاطة بجدار ," ويعتبر ابتكار الأبجدية في عهد نقمادو الثاني , أعظم ابتكار ثقافي ابتدعه الفكر الإنساني , وكتبت على لوح طيني طوله 5,1 سم وبعرض 1,3 سم , ومحفوظ أصله في المتحف الوطني بدمشق ومؤلفة من 30 حرفاَ ", ووصف العالم جورج بيرو أهمية أبجدية أوغاريت بقوله " ... نحن لا نعرف التاريخ الحقيقي لهذا الابتكار العظيم , كما لا نعرف اسم المبتكر , غير أننا نعرف اليوم أنه كان فينيقياَ أي ســـورياَ , ويمكننا القول أن شعباَ أوجد هذه الأعجوبة يستحق تقديرنا , ويحق له أن يتبوأ مكانة ممتازة في تاريخ العالم " , وتعرض متاحف دمشق واللاذقية وحلب وطرطوس بعض الكنوز التي اكتشفت فيها " .
ووجدت في قصرها الملكي لوائح قاربت / 16000 / لأرشيف ألقى الضوء على التجارة والعلاقات الدبلوماسية ونظام الضرائب , وكما اكتشف لوح طيني نحتت عليه مؤلف موسيقي كان عبارة عن أول أغنية في العالم , ترجع إلى عام 1400 ق. م أي قبل ألف عام من أقدم قطعة موسيقية عرفها الغرب .
غادرنا أوغاريت لنقضي ليلتنا في طرطوس , وشاهدنا منها أنوار أرواد الوهاجة , وبعد جولة صباحية حول أسوارها القديمة , قادتنا إلى متحفها ( كاتدرائية طرطوس ) الذي يضم مجموعة كبيرة من آثار العهود والحضارات السورية المختلفة, وكما هو شائع فإن القديس والرسول بطرس كان يحتفظ في الكاتدرائية بأيقونة السيدة العذراء العجائبية والتي رسمها القديس لوقا .
وجنوب طرطوس كانت " عمريت " تلوح لنا , من خلال قبورها البرجية ,ومعبدها الفريد المنحوت في الصخر والمحاط بالمياه , وفيها بقايا ملعب رياضي كان يتسع لأحد ى عشر ألف متفرج , ويعود بناؤه إلى القرن الرابع ق.م .
والمطلوب تسويق هذا الملعب سياحياَ ودولياَ إذ يعتقد أنه يسبق ما هو متعارف عليه دولياَ بالألعاب الأولمبية التي مركزها في اليونان .
اليان جرجي خباز